كتابة الضبط بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية*
أسندت النصوص القانونية، في مواضيع متعددة ومتفرقة، مهامًا متنوعة لأطر كتابة الضبط، توزعت بين مهام إدارية ومالية وقضائية، وهي الأخيرة التي حظيت باعتراف صريح في ظل قانون التنظيم القضائي الجديد. غير أن هذا التعدد في الاختصاصات أفرز نوعًا من التشويش القانوني، بشأن الجهة التي تُسند إليها التبعية الوظيفية والمؤسساتية لهيئة كتابة الضبط.
وقد يبدو للوهلة الأولى أن الجواب بسيط، مفاده أن كتابة الضبط تخضع، في ما يتعلق بمهامها الإدارية والمالية، للسلطة الحكومية المكلفة بالعدل، بينما تخضع، في ما يخص مهامها القضائية، للسلطة القضائية عبر المسؤولين القضائيين. غير أن هذا التصنيف، على بساطته الظاهرية، يخفي في الواقع إشكالات أعمق وأكثر تعقيدًا، ذلك أن التمييز العملي بين المهام القضائية والمهام الإدارية ليس أمرًا يسيرًا في العديد من الحالات، حيث تتداخل الوظائف وتتقاطع المسؤوليات، بما يجعل رسم الحد الفاصل بينها مسألة إشكالية من الناحيتين القانونية والواقعية.
وقد أفضى هذا الوضع إلى نشوء نوع من التنازع غير المعلن بين السلطتين القضائية والتنفيذية، وهو تنازع لا يُفهم بالمعنى السياسي للصراع، وإنما في بعده القانوني والمؤسساتي. فالسلطة القضائية ترى أن إدماج كتابة الضبط ضمن بنيتها التنظيمية يُعد شرطًا جوهريًا لتحقيق الاستقلال الفعلي للقضاء، معتبرة أن بناء محكمة مستقلة لا يمكن أن يتم دون إخضاع كافة مواردها البشرية، من قضاة وأطر كتابة الضبط، لإشرافها الكامل. وتستند في ذلك إلى منطق مفاده أن العملية القضائية وحدة متكاملة لا تحتمل التجزئة، وأن إقصاء أحد مكوناتها الأساسية، والمتمثل في كتابة الضبط، من دائرة الاستقلال، يُفرغ هذا المبدأ من مضمونه العملي. ويُستشهد في هذا السياق بتجربة المجلس الأعلى للحسابات، الذي يتمتع بالاستقلال المؤسسي بكافة مكوناته، بعيدًا عن وصاية السلطة الحكومية.
في المقابل، ترى السلطة الحكومية، ولا سيما وزارة العدل، أن بقاء كتابة الضبط تحت إشرافها يشكل ضمانة قانونية ومؤسساتية لحضور الدولة داخل المرفق القضائي، باعتبارها الامتداد الإداري المشروع للسلطة التنفيذية داخل المحاكم. وتذهب إلى أن فصل كتابة الضبط عن الوزارة قد يؤدي إلى عزلها عن الشأن القضائي العام، وإضعاف دورها في الإسهام في بلورة النموذج القضائي، خاصة من خلال الإدارة القضائية، التي تعتبر المجال المشروع لتدخل السلطة الحكومية في هذا المرفق الحساس.
وقد يُعتقد أن هذا الإشكال قد تم تجاوزه بعد صدور قرار المحكمة الدستورية واعتماد قانون التنظيم القضائي الجديد، غير أن الواقع العملي يُظهر أن حالة التجاذب بين السلطتين ما تزال قائمة، وإن اتخذت أشكالًا أقل وضوحًا.
ولا شك أن هذا الوضع ألقى بظلاله على أطر كتابة الضبط، وخلق لديهم حالة من عدم الاستقرار الوظيفي والمؤسساتي، إذ نادرًا ما نجد هيئة تمارس مهامها تحت تأثير سلطتين مختلفتين، بما ينعكس سلبًا على نجاعة الأداء اليومي وعلى وضوح مركز القرار داخل المحكمة.
إن تجاوز هذه الإشكالات يقتضي، في المقام الأول، وضع تعريف دقيق لطبيعة المهام القضائية، والمهام الإدارية، والمهام المالية التي تضطلع بها كتابة الضبط، مع تحديد واضح لاختصاصات كل من المسؤول الإداري والمسؤول القضائي في علاقتهما بهذه الهيئة. ومن شأن هذا التحديد أن يحقق استقرارًا في آليات اتخاذ القرار، ويعزز الأمن الوظيفي، فضلًا عن دعم الجانبين المعنوي والمادي لأطر كتابة الضبط، بما يخفف من الإحساس بعدم الاستقرار الذي يطبع وضعهم الحالي.
وتبقى السنوات المقبلة حاسمة في رسم معالم مستقبل كتابة الضبط داخل المنظومة القضائية. غير أن الحل، في تقديرنا، يكمن في ترقية هيئة كتابة الضبط إلى إدارة قضائية مستقلة، تتولى تدبير الشأن الإداري القضائي باستقلال عن السلطة الحكومية، مع إرساء آليات تعاون مؤسساتي وثيق مع السلطة القضائية، بما يحقق التوازن بين متطلبات الاستقلال وضرورات الحكامة الجيدة داخل المرفق القضائي.
